ستبقى ثورة فبراير الليبية واحدةً من أعظم اللحظات التاريخية، والتي شكّلت شبه إجماعا وطنيا وشعبيا، بمعزل عن ما حدث بعدها فقد استطاعت إنقاذ البلاد من حكم الدكتاتور العسكري معمر القذافي ومن مستنقع الاستبداد الفردي والأسري والقبلي ومن التوريث والفساد، وبغض النظر عن النتائج السيئة التي وقعت في البلاد والتي لا يمكن القياس عليها لإثبات فشل "فبراير" أو نجاحها، إذ يكفي أنها حررت المواطن الليبي من الخوف والهيمنة وفي هذا السياق يمكن القول:
أولاً/ إن ثورة فبراير هى بمثابة تغيير ديمقراطي بالأساس، وبالتالي بقاؤها فكرة تغيير مدني، غير مرتهنة للأجندات المتصارعة حتى يومنا هذا ولابد أن يستمر مسار فبراير بعيداً عن الصراعات والإستقطابات المحلية والإقليمية والأجنبية، لعله ينبثق عنها تيار سياسي وطني عريض خارج حسابات الأطراف المتصارعة والمرتهنة لأطماعها الشخصية من المدنيين والعسكريين.
ثانياً/ تُعد ثورة 17 فبراير لحظة تاريخية فارقة في حياة الشعب الليبي ولكن يجب أن تخضع للنقد والمراجعة والتصحيح، والبناء عليها باعتبارها لحظة تغيير شعبي، ينبغي الانطلاق منها نحو إعادة بناء الدولة الليبية، لانها خلقت تياراً وطنياً حان وقت بروزه في الميدان، حتى لا تبقى فكرة فبراير فكرة غير واقعية حالمة لا وجود لها على أرض الواقع، خاصة في ظل الصراعات والخلافات القائمة الآن التي يمكن أن تستمر في استنزاف البلاد وإبقائها رهينة لها على المدى البعيد.
ثالثاً/ الثورة الليبية تحتاج إلى وقفة تقييم شجاعة وصادقة ومخلصة، والخروج بها من لحظة الشعارات إلى واقع العمل والبناء وهذا لا يمكن أن يتأتى إلابالانطلاق إلى المشروع الذي يتطلب حلاً سياسياً وطنياً، ويمتد على امتداد الجغرافيا الليبية شرقاً وغرباً وجنوباً، ولا يتأتى ذلك إلا بالانطلاق من الانتخابات الحرة والنزيهة وبحجم الحلم والتحديات معاً.
لاشك أن الأخطاء واردة لجيل وجد نفسه فجأة في قلب الأحداث غير المتوقعة، وهو جيل أجاد تفجير الثورة والهتاف بشعاراتها، لكنه بلا خبرة له بالسياسة وأدواتها وألاعيبها، فتم إبعاده ومصادرة حقه في إدارة فعله التغييري فضلاً عن غياب الوعي الكافي بتعقيدات وأبعاد ومحطات القضية الوطنية الليبية والصراعات والتعقيدات والتحالفات القبلية والجهوية التي صنعها الدكتاتور معمر القذافي على امتداد 42 عام لكي يستمر في السيطرة الكاملة والحكم، ومنذ البداية بعد انتشار الثورة في ربوع البلاد ظهر في المشهد الليبي المجلس الانتقالي حيث قفز إليه من تصالحوا مع المجرم القذافي و أبنه سيف واعلنوا استسلامهم له بحجج ومبررات اعتقدوا أنها منطقية في ظل غياب قوى سياسية أو شعبية منظمة، حيث اختلط الحابل بالنابل وهنا وجد الكثير من شباب ورجال الثورة أنفسهم فجأة خارج مسرح الأحداث، بعدما كانوا صنّاع الحدث وقادته مما عطل العمل الثوري الجماعي المنظم وساعد على اختطاف أهداف الثورة وتحويلها إلى مجرد اوراق سياسية.
بعد اختيار حكومة الدكتورعبد الرحيم الكيب "رحمة الله" وبعده حكومة على زيدان وبروز الخلافات وسقوط أو نهاية المؤتمر الوطني وانتخاب مجلس النواب، حيث وقعت الكارثة السياسية بعد الانتخابات البرلمانية التي سهلت عودة شخصيات من اتباع الدكتاتور القذافي متسترةً تحت رداء ثورة فبراير التي أفرطت في تسامحها مع الجميع، فوقعت ضحية لإفراطها في التسامح مع أطراف وأفراد وشخصيات تُعد نقيضا للإجماع الوطني الليبي، وعدو له ولاتؤمن مطلقا بالحداثة السياسية ولاتعرفها، بالطبع كل ذلك سمح بالكثير من تدخلات القوى الإقليمية والأجنبية واطماعها مما كان له الأثر الكبير في الأحداث المؤلمة والتعقيدات والانقسام والتشرذم بسبب تدخلاتها المكشوفة مما دفع بالأوضاع في البلاد في مسارات واتجاهات أشد تعقيداً وخطورة حتى الان.
اليوم في ذكرى الثورة الليبية على الجميع أن يدرك أنه كلما جرى تحميل الثورة أوزار كارهيها زاد الرهان عليها، واشتدّ عناد الواعين بأن من جاء وقفز من أجل الغنيمة لابد له يسقط عاجلاً أم آجلا، فليس هناك أخطر من اللصوص الذين تسللوا إلى إدارة شوؤن البلاد والسيطرة على مقدراتها، وسوف تبقى الثورة عقدة لأعدائها، فهم زيفٌ وهي الحقيقة، هي عقدة للمرتعشين من ذكراها الذين يحرّمون الإشارة إليها، ويستبعدون المشاركين فيها إلى الهامش، أو إلى السجون والمعتقلات بسلاح التسلط والقمع بقوى تتجاوز الحقوق والقانون.
0 Comments: