أنهى الليبيون العام الراحل بمثل ما استقبلوه، أي بأزمة سياسية تزداد تفاقما من سنة إلى أخرى، وبلا أمل في خلاص قريب. وشكل فشل اللقاءات المتكررة (خارج ليبيا) بين رئيس مجلس الدولة خالد المشري ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، صدمة قوية لليبيين ومصدر غضب من عجز النخب عن إنقاذ البلد. وأتى الرد على إخفاق الحوار من الشارع، في سابقة غير مألوفة، إذ انطلق المتظاهرون في طرابلس إلى مقر رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، لكن لم تحدث صدامات مع الحراس، على ما يبدو. وانطلقت في الآن نفسه، أي بعد إخفاق محادثات جنيف، مظاهرات أخرى في كل من بنغازي والبيضاء ومصراتة وبعض المدن الأصغر. وما سهل التجاوب مع تلك الشعارات قساوة الأوضاع الاجتماعية، التي بات يعيش فيها الليبيون جراء الانقطاعات الكثيرة للكهرباء، وعلاقة ذلك بفساد الطبقة السياسية برمتها.
عودة الخُضر؟
ويمكن القول إن من يقدر على تعبئة كل هؤلاء المتظاهرين، في وقت واحد وبشعارات موحدة تُدين الحكام السابقين واللاحقين، هم من يُعرفون بـ«الخُضر» وهم أنصار النظام السابق، الذين ما زالت ماكينتهم التعبوية قادرة على العمل، بالرغم من الضربات التي لحقتها. ومن هنا أتت الشعارات، التي عبرت عن رفض جميع من تصدروا المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، والتي وصلت إلى حد مهاجمة مقر مجلس النواب في طبرق، وهو ما يؤكد أن خلف المظاهرات قوة سياسية تستثمر الغضب الشعبي لتغليب مشروعها، ورمزه سيف الإسلام القذافي. وكان لافتا أن عدة مدن في المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر بقبضة من حديد، أسوة ببنغازي والبيضاء وطبرق وبعض المدن الأصغر، خرجت عن طوعه وشاركت بكثافة في الاحتجاجات.
وقود المظاهرات
وكان الوقود الذي حرك المتظاهرين هو السأم العام من استمرار الصراع على المناصب بين الطامحين إلى السلطة، وسط تدهور غير مسبوق للبنية الأساسية، وفي مقدمها شبكة الكهرباء المهترئة. واتهم المتظاهرون الحكام الحاليين والسابقين بنهب المال العام وتهريب الأموال إلى الخارج. مع ذلك يمكن القول إن جماعة سيف الإسلام تعلموا من التجربة التونسية أن عودة المنظومة السابقة ممكنة، إذا ما بلغ سيل الغضب الزُبى، ولم يوجد بديل سياسي واضح المعالم ومقنع من بين من يُسمون بـ«الفبرايريين» نسبة إلى انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 التي أسقطت منظومة معمر القذافي وأبناءه.
في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى تقرير أوروبي اتهم ما وصفه باقدام جهات فاعلة، داخلية وخارجية لم يُسمها، على عرقلة الحل السياسي للأزمة. وشرح التقرير أن العديد من الكيانات في ليبيا مستفيدة من المأزق الحالي ولديها مصلحة ثابتة في الحفاظ على الوضع كما هو، مؤكدا إن بقاء الحال على ما هو عليه أمر غير مقبول بالمرة.
ومن ميزات 2022 في هذا المجال صدور تقارير أماطت اللثام عن مظاهر الفساد المنتشر في المجتمع وأجهزة الدولة على السواء، بما في ذلك رئيس الحكومة الدبيبة والمربع الحاكم معه. وأظهرت دراسة لمعهد الأمم المتحدة الإقليمي لأبحاث الجريمة والعدالة، أن متوسط الخسارة السنوية من التدفقات المالية غير المشروعة في ليبيا يقدر بـ1.2 مليار دولار. وأوضح المركز أن هذه الخسارة تستفيد منها مافيا تهريب المهاجرين، التي تدر سنويا حوالي 236 مليون دولار، بالإضافة إلى حوالي 30 مليون دولار من تهريب الأسلحة الصغيرة والخفيفة، في ظل ضعف السيطرة الفعالة على الأراضي الليبية الشاسعة، وغياب سلطة الدولة من بعض المناطق، وخاصة الجنوب. وفي السياق أكد التقرير أن قيمة تجارة السلاح الليبي، في فترة ما بعد سقوط القذافي، تراوحت بين 15 و30 مليون دولار سنويا، مشيرا إلى أن تهريب النفط يشكل 20 في المئة من دخل الميليشيات.
في هذا الإطار يمكن القول إن سنة 2022 أبصرت صدور تقرير عن ديوان المحاسبة، أحرج حكومة الدبيبة بحجم المخالفات التي سجلها. وأظهر التقرير ارتفاعا ملحوظا في باب الرواتب وانتداب قرابة 270 ألف موظف جديد في 2021. وعلى سبيل المثال ورد في التقرير أن الترفيع من رواتب الدبلوماسيين خلال السنة نفسها كلف الميزانية 544 مليون دولار، بالإضافة لتضخم رواتب الموظفين التابعين لمجلس الوزراء.
ومن المخالفات الأخرى التي رصدها التقرير تضخيم نفقات السفر والمبيت لموظفين تابعين لمجلس الوزراء، والتي بلغت إجمالا أكثر من 4 ملايين دينار. كما لوحظ إيفاد أشخاص لا تربطهم علاقة وظيفية برئاسة مجلس الوزراء، وسداد قيمة حجوزات إقامة بالفنادق، داخل العاصمة طرابلس، لأشخاص من دون توضيح صفاتهم أو تبعيتهم الإدارية لمجلس الوزراء. وأبرز التقرير إجراءات انتداب لموظفين بأضعاف رواتبهم، وتكليف مستشارين لمجلس الوزراء، من دون عقود تُحدد مدة عملهم ومقرات أعمالهم، ومن دون إرفاق مستندات بمؤهلاتهم العلمية وسنوات الخبرة التي تلقوها، إن تلقوا فعلا خبرة.
0 Comments: